حضرموت نحو فهم مُعقّد للتحوّلات والفرص الراهنةتحليل من منظور علم تحويل النزاع وبناء السلام
م. عبدالله الخراز
واقع مُتغيّر وتعقيد مُتزايد
تُعيش محافظة حضرموت حالة من التحوّلات السريعة والمتداخلة التي تُعيد تشكيل خريطة القوى والمصالح على الأرض. فما بين المطالبات المحلية بالحكم الذاتي، والمشاريع السياسية الإقليمية، والتفاعلات الإقليمية المعقدة، ينشأ واقعٌ جديد يتطلّب فهماً دقيقاً يتجاوز التحليل الثنائي البسيط. هذا الواقع يفرض على جميع الأطراف إعادة حساباتها، ويُبرز الحاجة الملحة لحوار يمنع التصعيد ويضع مصلحة السكان وحقوقهم في الصدارة.
خريطة الفاعلين في ظل التطورات الأخيرة
مُكونات محليّة في حالة حراك
تشهد الساحة الحضرمية تنامي كيانات محلية تُعبّر عن رغبة في تعزيز الوجود والحماية الذاتية. ظهرت مؤخراً تسميات مثل "قوات حماية حضرموت" و"تيار التحرير والتغيير"، مما يُشير إلى تحوّل في المشهد يتجاوز الأطر التقليدية المعروفة. هذا الحراك يعكس من وجهة نظري، شعوراً بالحاجة إلى ملء فراغ أمني وسياسي، وأحياناً رفضاً للوصاية الخارجية أو الإقليمية.
إعادة تعريف الأدوار
لا تزال الأطراف السياسية ذات المشاريع الواسعة (كالمجلس الانتقالي) تحاول فرض حضورها، لكنها تواجه تحديات جديدة. ما يحدث حاليا من "تخلخل في الولاءات" داخل بعض التشكيلات العسكرية المحلية التي كانت تُعتبر موالية سابقاً لمشاريع إقليمية قد يُعزى إلى تنامي وعي محلي أو إلى تغيّر في حسابات المصالح. كما أن التحركات العسكرية التي تتقدم من مناطق أخرى نحو حضرموت وانسحابها بعد مواجهات محدودة في بعض المناطق الداخلية، تُظهر هشاشة السيطرة وتعدد مراكز القرار.
مجتمع محلي تحت وطأة التصعيد
تؤثر هذه التطورات بشكل مباشر على الحياة اليومية للسكان. ما يحدث اليوم من شلل شبه تام في الحركة الاقتصادية، وإغلاق الجامعات، ورفع الجاهزية القصوى في المستشفيات. هذه الإجراءات الاحترازية تعكس حالة القلق السائدة وتُذكّر بكون المدنيين هم الأكثر تضرراً في أي تصعيد. كما أن انقطاع الكهرباء المستمر يُفاقم المعاناة ويُغذي السخط الشعبي.
السياق الإقليمي إستراتيجيات متغيرة وتداعيات محلية
تُظهر بعض التقارير الحديثة أن الدول الإقليمية الفاعلة تعيد تقييم إستراتيجياتها في حضرموت. هذا يُشير إلى "قلق شديد" لدى الأطراف الإقليمية على مستقبل وجودها في الساحل، وهذا يُفسر التحركات العسكرية أو السياسية الجديدة. الهدف الإستراتيجي هو "إحكام السيطرة على ساحل حضرموت" كموقع نفوذ استراتيجي دائم.
من المهم هنا أخذ هذه التطورات بعين الاعتبار، فالدوافع الإقليمية غالباً ما تكون مركبة (أمنية، اقتصادية، استراتيجية). كما أن اختيار تواريخ محددة للتحركات العسكرية -كالثاني من ديسمبر- يفتح الباب لتفسيرات متعددة حول الرسائل والرموز التي يُراد إرسالها.
الجانب الاقتصادي المورد نقمة ونعمة
تستمر إشكالية إدارة الموارد، وخاصة النفط، في كونها قلب الأزمة. تعثرت المفاوضات الاخيرة حول تسليم مواقع المنشآت النفطية، مما يُظهر مدى ارتباط الصراع السياسي والعسكري بالسيطرة على الموارد الاقتصادية. هذا الواقع يُعيق أي تنمية محلية ويجعل من "الثروة" سبباً مباشراً للتوتر وعدم الاستقرار، وهو نمط شائع في تحليل نزاعات الموارد حول العالم.
النسيج الاجتماعي تحت الضغط
يُواجَه تماسك المجتمع الحضرمي التاريخي ضغوط هائلة. التقسيمات الجيوسياسية (ساحل ضد وادي) التي تُحاول بعض الأطراف تعزيزها تهدد بوضع أسس للانقسام الداخلي على المدى الطويل. في المقابل، تظهر أيضاً خطابات محلية تُحاول بناء جسور، كتلك التي تُحرّم "دم الحضرمي على الحضرمي"، والتي قد تُشكل أساساً لأطر أخلاقية تمنع التصعيد الأهلي.
الحكم والإدارة أزمة متعددة المستويات
التحديات الإدارية تتعمق مع تعقّد المشهد العسكري والسياسي. ازدواجية الهياكل وغياب السلطة المحلية الفعالة الموحدة ينعكس سلباً على تقديم أبسط الخدمات، كالكهرباء والصحة والتعليم. كما أن انتشار قوات "ملثمة غير معروفة" في بعض المناطق الحضرمية، يزيد من حالة الغموض وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة الرسمية.
مسارات محتملة للمستقبل بين التصعيد والحل
في ضوء المعطيات الراهنة، تظهر السيناريوهات المستقبلية احد الاحتمالات التالية:
السيناريو الأول: التصعيد العسكري المحدود والمتكرر
استمرار دورات من المناوشات العسكرية والمواجهات المحدودة على خطوط التماس (كما حدث في ساه والجول)، مع تدخل إقليمي مباشر أو غير مباشر لحماية المصالح. هذا السيناريو يحمل خطر التطور غير المحسوب إلى مواجهات أوسع.
السيناريو الثاني: تجميد الوضع وتعقيده
استمرار حالة "اللاحرب واللاسلم" ولكن بمستوى أعلى من التعقيد والتشظي، حيث تتنافس كيانات محلية وإقليمية عديدة على النفوذ دون قدرة أي منها على حسم الأمر، مما قد يؤدي إلى استنزاف اقتصادي واجتماعي طويل الأمد.
السيناريو الثالث: حوار بضغوط ميدانية
دفع التطورات العسكرية والمخاوف من الانزلاق إلى حرب أهلية الأطراف المحلية والإقليمية إلى طاولة حوار تحت وساطات قد تكون خليجية أو دولية، للاتفاق على ترتيبات أمنية وسياسية جديدة تحفظ مصالح متعددة.
السيناريو الرابع: بروز قوة محلية ثالثة فاعلة
قد تؤدي الديناميكيات الحالية إلى بروز تحالفات محلية جديدة (عسكرية أو مجتمعية) قادرة على فرض نفسها كطرف مركزي في أي معادلة مستقبلية، مما قد يعيد رسم خريطة القوى من الداخل.
توصيات عملية للوقت الراهن لمنع التصعيد وحماية المدنيين
في هذا المنعطف الحرج، تكون الأولوية لمنع خسائر بشرية جديدة والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي. لذلك نوصي بما يلي:
فتح قنوات اتصال عاجلة بين جميع القوى العسكرية الفاعلة على الأرض لتفادي سوء التقدير والتصادم غير المقصود، مع وجود وساطة محلية موثوقة.
حماية المنشآت الحيوية والخدمية من خلال الاتفاق على جعل المستشفيات والمدارس والجامعات ومنشآت الكهرباء والماء مناطق محمية بعيداً عن أي توتر عسكري.
فك الارتباط الفوري بين الملفين السياسي والخدمي والعمل على حل أزمة الكهرباء والخدمات الأساسية كقضية إنسانية مُلحة مستقلة عن الخلافات السياسية، لاستعادة جزء من الثقة المجتمعية.
تشكيل لجنة رصد محلية تضم شخصيات اجتماعية وقانونية محلية موثوقة لرصد التطورات ونشر معلومات دقيقة لتجاوز الإشاعات المغذية للتوتر.
توجيه رسائل واضحة للمجتمع الدولي حول المسؤولية عن حماية المدنيين وضرورة الضغط على جميع الأطراف للالتزام بالقانون الإنساني الدولي.
المسؤولية المشتركة
حضرموت تمر بلحظة مصيرية. الخيارات التي تُتخذ في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة ستحدد مسارها لسنوات عديدة. التصعيد العسكري، بأي ذريعة، لن يُنتج إلا مزيداً من الدمار والتقسيم والضعف للجميع.
الطريق الوحيد نحو مستقبل مستقر يبدأ بالاعتراف بأن أمن حضرموت وازدهارها مسؤولية مشتركة لأبنائها أولاً، وعلى حلفائها الإقليميين والدوليين احترام هذه الإرادة ودعمها. الحل لن يكون عسكرياً، بل سياسياً واجتماعياً، قائماً على حوار يضم الجميع، ويركز على كيفية إدارة الثروة لخدمة التنمية، وكيفية بناء مؤسسات حكم محلي تتسم بالشرعية والكفاءة والشفافية.
مستقبل حضرموت يُصنع اليوم، والخيار بين حرب تدفن الجميع، أو سلام يُبنى للجميع
المشاركة عبر: